بسم الله الرحمن الرحيم
مكالمة أقلقتني
هل نستطيع صناعة أبناء مثاليين ؟
1- اتصلت بي إحدى الأمهات - من عدة سنوات - وقالت: ما الحل مع زوجي ؟ ما إن بدأت الإجازة الصيفية إلا وأرسل ابننا الوحيد, لإحدي البلاد الغربية؛ لتعلم اللغة دون رغبة مني، ولا من ابني، وقد حاولت إقناعه بعدم صحة هذا التصرف لأسباب: دينية، واجتماعية، وعاطفية، وأمنية, وتربوية، ولكن دون جدوى؛ فزوجي عنيد، لا يغير رأيه وشرس في تعامله,وكان يتعلل بأنه يخشى عليه من الضياع في الصيف(1).
تقول الأم: وذهب ابني فأعقبني حسرة، وكان أكثر ما يؤلمني اتصالاته المتكررة بي وبكاؤه، ويقول لي: أنتم في الصيف تجتمعون مع أعمامي وأخوالي, وأبنائهم يستمتعون بإجازتهم وأنتم تستمتعون بأجازتكم، وأنا أعيش الغربة وحدي, وأحرم متعة الإجازة، وتقول: والذي زاد من حزني، أن ابني لن يعود بفائدة مرجوة؛ فقد ذهب مُرغمًا فكيف أستطيع إقناع والده بإعادته؟ فالإجازة شارفت على الانتهاء، وابني لم يستمتع بها كأقرانه (2).
2- فقلت لها : ليست المشكلة مشكلتك وحدك ،و ليست المعاناة لابنك وحده ،ولكن الغرابة في موضوع ابنك أنه أُجبر على التعلم خارج الوطن،وهو لم يُناهز الحُلم ،لقد كنت أظنُّ أنَّ الآباء يرسلون فلذات أكبادهم تحت ضغطٍ أبنائهم ، ولم أتصور أن الآباء يجبرون أبناءهم على الذهاب،فلا شك أن محصلة هذه الرحلة ضعيفة علميًا، وسيئة تربويًّا في الغالب ،وأرشدتها إلى بعض الحلول التي قد تُجدي مع زوجها (3).
3- وقد قادتني هذه المكالمة إلى أمورٍ،قبل أن أبينها أحب أن أؤكد أنني لست ضد تعلم اللغات ابتداءً؛ لأنه، قد يقول قائل :ألا تريد له أن يتعلم اللغة ؟فأقول :لا بل أنا من مؤيدي تعلمها، لكن بشروطٍ منها:
أ- قناعة الابن.
ب- أن يكون التعلم في بلادنا,أو في بلادٍ إسلامية محافظة في أسوء الأحوال.
ج- وأن تكون الحاجة ملحة،كأن يكون طالب على مشارف دخول كلية الطب،أو كلية تحتاج إلى لغةٍ.
د- وجود ضوابط وبرامج تربوية صارمة .
ه- أن يكون التعلم تحت إشراف معاهد موثوقة .
4- وأما بهذا الأسلوب القائم على إرسال فلذات الأكباد وهم دون البلوغ أو في بدايته وأوجه، وحيدين بمفردهم الي بلاد الغرب ,فلا أؤيده ,وأبرأ الي الله من ذلك ,فهذا منهج غير شرعي،ولا تربوي ،ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أوردها سعد وسعد مشتمل . ما هكذا تورد يا سعد الإبل
5- الأب تدفعه عاطفة قوية نحو أبنائه,ويحرص - كل الحرص- علي تنشأتهم النشأة الصالحة,باذلاً ما في طاقته من جهد بدنه،ووقته، وماله، وهذا أمر طيب ومحبب وأداء للواجب الذي أوجبه الله عليه،وقيام بحق الرعاية الذي كلفه به الشارع الحكيم، وهذا هو المطلب الرئيسي .
6- بعض الآباء يغلو ويشدد في التربية، وقد أثبتت التجارب أن هذه التربية تأتي في الغالب بنتائج عكسية. وفي جعبتي عشرات الأمثلة في القديم والحديث التي تؤكد عدم صحة منهج القسوة في التربية ولو كان دافعه الرحمة،فالغاية لا تبرر الوسيلة.
ولكي لا أشتت أذهان القراء أوضح لهم الموضوع بالأمثلة :
1- أحد الآباء حرص - كل الحرص - على وضع نظام صارم فى الأكل والشرب لأبنائه؛ سعيًا لأن يتناولوا أكلًا صحيًّا، دون أن يكون ذلك عن طريق الاقتناع منهم،بل من خلال قناعاته وفهمه، وقد حرمهم مما اعتاده من كان قرينًا لهم في العمر؛ فكانت النتيجة البحث عن هذا الممنوع في غيابه،وكراهية نهج والدهم، وكان ينبغي على هذا الوالد أن يسدد ويقارب ، لقد كانت النتيجة خروج أبناء جميعهم بدناء،طعامهم الوجبات السريعة ومشروبهم المياه الغازية في غياب والدهم،وما أكثر غيابه!
2- أحد الآباء ما إن تنتهي الإجازة الصيفية، إلا ويرسل فلذة كبده إلي مربين يستلمونه من بعد صلاة الفجر حتي آذان الظهر . ومن صلاة العصر حتي صلاة العشاء يتعاقبون على تعليمه تعاقب الليل والنهار، ما بين: معلم لغة، ومحفظ قرآن، قرابة الشهر . ثم يسجله في بقية الإجازة في معاهد في الصباح ليتعلم الحاسب الآلي،وفي المساء ليتعلم اللغة الإنجليزية,من غير قناعة من الابن؛فكانت محصلته ضعيفة،وكانت النتيجة سلبية؛ فلم يستطع الأب أن يصنع من ابنه ابنًا مثاليًا، بل عندما بلغ مبلغ الرجال،وخرج من سيطرة والده؛ حلق لحيته وأرخى ثيابه .
فهذا الجدول الجاد القاسي لا يستطيع الأب أن يتحمله،فكيف بغلام من حقه أن يلهو في إجازته،وأن يأخذ قسطًا من الراحة ؟! ولو تفكر الأب في سبب الإجازة لعلم أن الهدف منها الاستجمام والراحة ليأخذ دفعة للعام الدراسي الجديد،ولو لم يكن للإجازة هدف؛فلماذا توقف الدراسة بالصيف في كل دول العالم؟ ولو أن الأب حث ابنه على اقتطاع جزء من الإجازة لحفظ القرآن،أو تعلم علمٍ نافعٍ لقُبل،أما أن يجعل الإجازة كلها دراسة ومذاكرة وحفظ ومراجعة؛فإن الابن لن يتقبل،ولن يستفيد الفائدة المرجوة،ناهيك عن أنه سيبدأ العام الدراسي الجديد منهكًا خائر القوى،وهذا سيؤثر سلبيًّا على استيعابه طوال العام.
3- أحد الآباء ما إن يخرج أبناؤه من المدرسة، وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم . ينتظرهم في البيت المدرس الخصوصي . يستلمهم بعد الغذاء مباشرة حتي آذان العصر . ثم ينتقلوا للتحفيظ حتي آذان المغرب . ثم يستلمهم من بعد المغرب إلي بعد العشاء بقرابة الساعة أساتذة من شتي الفنون , رغبه بأبناء متميزين في اللغات والحاسب . وقبل هذا وذلك حفظه لكتاب الله،وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام،ومتميزين في مدارسهم، وكانت النتيجة لا هذا ولا ذاك،بل خرج بعضهم مُصابًا بأمراضٍ نفسيةٍ . فقد حرموا من الإجازة في وقت الإجازة،ومن الراحة في وقت الراحة والرسول،صلى الله عليه وسلم، يقول:"والقصد القصد تبلغوا"(4).
4- أحد الآباء تميز، وأراد أن يكون أبناؤه متميزين، وفعل كما فعل من في المثال الثاني، إلا أنه في وقت الظهيرة أخف، ولكنه كان يفعل كما يفعل الثالث حتي في إجازة نهاية الأسبوع لا رحمة ولا شفقة؛ فكانت نهاية ابنه كنهاية الشاب في النموذج الثاني .
5- أحد الآباء - وهذا حدث عنه ولا حرج- حول بيته إلى معسكر؛ من حيث نظام: الأكل، والشرب، والنوم فكان صارمًا في المواعيد حرصًا منه علي إخراج بيت مثالي؛ فكره أبناؤه البيت، وكرهته زوجه لمنهجه المتشدد، فلم يفلح ابن من أبنائه، ولا بنت من بناته، لا في دراستهم، ولا في حياتهم، ولا في بناء أجسامهم .
6- يُعد من أسباب إلحاد عبد الله القصيمي، تعامل والده القاسي معه؛ حيث كانت معامله والده القاسية سببًا من أسباب انحرافه، حيث قال عن والده الذي التقي به بعد طول فراق: «ومنذ بداية تلاقينا راح يقسو علي قسوة يصعب وصفها، بل بهاب ويرهب وصفها، يزعم أنه يريد أن يجمع كل العلوم التي يعرفها أو يتصورها أو يسمع بها، وكل أخلاق السلوك المهذب الذي يراه هو كل الكمال، يجمع كل ذلك في لقمة واحدة لابتلاعها مرة واحدة بلا تذوق أو مضغ، ولقد كان يرى قسوته على هذا التفسير ثناء عليه في المجتمع(5).
7- قد يقول قائل : هل هذه دعوة للإهمال ؟ : أقول لا وربي، ولكنها دعوة للتوازن والاعتدال، والتوجيه والإرشاد،والحوار والإقناع؛ وكم رأينا نماذج لشباب مثاليين؛ ما إن تبدأ الإجازة إلا ويتوجهون للحرمين لحفظ القرآن ومراجعته، أو لحفظ الصحاح وبقية كتب السنة، وبعضهم يتنقل بين الدورات المكثفة؛ لينهلوا من العلم، فهؤلاء انطلقوا بقناعتهم لا بالقسوة والإجبار، واستغلال الولاية، والسعي لتحقيق الأماني :
فما كل ما يتمني المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فرغبة الأب يجب أن تصل للابن بالإقناع،والاعتدال والوسطية، والدمج بين الجد والراحة.
9- في الختام أتمنى من علماء التربية أن يُناقشوا هذه القضايا، مناقشة علمية تربوية والله أعلم .
=====================================
الحاشية:
1- سبحان الله! يضيع في بلاد الحرمين، ولا يضيع في بلاد الغرب؟ إنها انتكاس الفطر.
2- الإجازات أقرها علماء التربية بعد دراسات، وهي محل إجماعٍ بين جميع المدارس التربوية،واتفقت عليها جميع دول الأرض،،فلا تجد مدرسة في العالم لا يُعطِّل منتسبوها.
3- أتمنى من القارئ الكريم التواصل معي عبر بريدي الإلكتروني،وإمدادي بحلول مقترحة لمثل حالتها .
4- جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، من طريق أبي هريرة، برقم ( 6463)،باب:القصد والمداومة على العمل.والمعنى: الزموا الوسط المعتدل في الأمور، تبلغوا مقصدكم وبغيتكم.
5- انظر كتاب "من أخبار المنتكسين" د/صالح العصيمي،ص (273)،و انظر "من أصولي إلى ملحد" ص27، وانظر دراسة عن القصيمي ص20.
--------------------------------------
قاله وكتبه:أبوعبد الإله الدكتور/صَالحُ بْنُ مُقبِلٍ العُصَيْمِيَّ التَّمِيمِيِّ
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
والمشرف العام على موقع الشيخ صالح بن مقبل العصيمي التميمي
تويتر، وفيس بوك DrsalehAlosaimi@
الرياض - ص.ب: 120969 - الرمز: 11689
فاكس وهاتف: 012414080
البريد الإلكتروني s555549291@gmail.com