حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنِ اِخْتِصَامٍ الْمَلَأِ الْأَعْلَى،قَالَ تَعَالَى: (مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ)،فَعَلًامَ كَانَ هَذَا الِاخْتِصَامُ ؟! قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ،صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،رَأَيْتُ رَبِّي،تَبَارَكَ وَتَعَالَى،فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ،فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ،قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ،قَالَ:فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ:فِي الكَفَّارَاتِ،قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ"( ).
وَمِنَ الْمُكَفِّرَاتِ- كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ عَنِ اِخْتِصَامِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ،فَمَا أَعْظَمَ أَنْ يَتَطَهَّرَ الإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ،ثُمَّ يَمْشِي إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ،قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَنْ بُيُوتِ اللهِ؛لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ : إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً». وفي الصحيحين،قَالَ رَسُولُ اللهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ )( )،وَفِي الصَّحِيحِ:(إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ،ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ،لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاَةُ،لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ،وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ،فَإِذَا صَلَّى،لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ،مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ "( )؛فَالْمَشْيُ إِلَى الْجَمَاعَاتِ لَهُ مَزِيدُ فَضْلٍ،وَكُلَّمَا بَعُدَ الْمَكَانُ الَّذِي يُمْشَى إِلَيْهِ مِنَ الْمَسْجِدِ؛ كَانَ أَفْضَلَ؛لِكَثْرَةِ الْخُطَا،وَلِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،قَالَ:كَانَتْ دِيَارُنَا نَائِيَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا، فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خَطْوَةٍ دَرَجَةً»( ). وَقَالَ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: «مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَرَاحَ،أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ»( ).
وَمِنْ أَعْظِمِ الأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْتَسِبَهَا عِنَدَ اللهِ الْمَشْيُ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي صَلَاتَيِّ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ، قَالَ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ : «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»( ) .
وَهِيَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ ، قَالَ تَعَالَى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد 12] ، فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ الْوُضُوءَ مُطَهِّرًا مِنَ الذُّنُوبِ ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْهَا شَيءٌ؛ كَفَّرَتْهَا الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ حَتَّى تَكْتَمِلَ طَهَارَتُهُ مِنَ الذَّنُوبِ ، وَحَتَّى لَا يَقِفَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمُنَاجَاةِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنْ دَرَنِ الأَوْسَاخِ وَالذُّنُوبِ، وَإِنْ قَوِيَ الْوُضُوءُ وَحْدَهُ عَلَى تَكْفِيرِ الْخَطَايَا ؛ فَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسْجِدِ يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْحَسَنَاتِ .
3- وَمِنْ مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ؛الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ؛اِنْتِظَارًا للصَّلَاةِ الأُخْرَى،لِقَوْلِهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ »( ). وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ اِنْتِظَارًا للصَّلَاةِ؛مِنَ الأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاهِي بِهَا الرَّبُّ مَلَائِكَتَهُ؛لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،الْمَغْرِبَ، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ،وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ،فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،مُسْرِعًا،قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ،وَقَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: " أَبْشِرُوا،هَذَا رَبُّكُمْ،قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ،يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ،يَقُولُ: " انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً،وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى"( ) ، وَأَمَّا الْجَالِسُ قَبْلَ الصَّلَاةِ،ثُمَّ يَنْصَرِفَ بَعْدَهَا؛فَلَهُ أَجْرٌ أَيْضًا؛لِقَوْلِهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،فِي الصَّحِيحَيْنِ:( إِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ»( )،وَفِيهِمَا أَيْضًا،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ،صَلَّى اللهُ،عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،قَالَ:"المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ،مَا لَمْ يُحْدِثْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ،وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ،لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلاَةُ "( ) . قَالَ الشَّيْخُ اِبْنُ عُثَيْمِين، رَحِمَهُ اللهُ ،:"هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي بِيَانِ فَضْلِ اِنْتِظَارِ الصَّلَاةِ، سَوَاءَ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةٍ سَابِقَةٍ أَمْ تَقَدَّمَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ".( ) . فَمُلَازَمَةِ الْمَسَاجِدِ،مُكَفِّرَةٌ للذُّنُوبِ؛لأَنَّ فِيهَا مُجَاهَدَةً للنَّفْسِ،وكَفًّا لَهَا عَنْ أَهْوَائِهَا،قَالَ تَعَالَى:(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [ النور 36 - 37 ] .
وَالْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ هُوَ عِمَارَةٌ لَهَا ، وَمَنْ يَفْعَلُهُ فَهُوَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ، قَالَ تَعَالَى : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) [ التوبة : 18]،وَفي تفَسِيرِ هَذِهِ الآيةِ قَالَ الْعُلَمَاء:إِنَّ الْمَقْصُودَ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ؛ الْجُلُوسَ فِيهَا،قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:الْعِمَارَةَ هَا هُنَا عَلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَالْقُعُودِ فِيهِ "( ) ، وَقَالَ الْجَوْزِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : " وَفِي الْمُرَادِ بِالْعِمَارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: دُخُولُهُ وَالْجُلُوسُ فِيهِ"( ).
وَيَزْدَادُ الْأَجْرُ إِذَا كَانَ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلاعْتِكَافِ أَوْ لِحُضُورِ حَلَقَاتِ الْعِلْمِ ، لِقَوْلِهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ"( ).
وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ للصَّغَائِرِ،لِقَوْلِهِ،صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ؛فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرُكُوعَهَا؛إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ،مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ»( ).
فَانْظُرْ كَمْ تَيَسَّرَ لَكَ مِنْ أَسْبَابِ تَكْفِيرِ الْخَطَايَا؛ فَاغْتَنِمْهَا بِاِحْتِسَابِ الْأَجْرِ.
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عُمَّارِ بُيوتِهِ، بِالْمُكْثِ فِيهَا وَاِنْتِظَارِ الصَّلَاةِ ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ شَمَلَهُمْ بِقَولِهِ سُبْحَانِهِ : (فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) [التوبة : 18 ] .
-----------------------------------------
قاله وكتبه:أبوعبد الإله الدكتور/صَالحُ بْنُ مُقبِلٍ العُصَيْمِيَّ التَّمِيمِيِّ
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
والمشرف العام على موقع الشيخ صالح بن مقبل العصيمي التميمي
تويتر ، وفيس بوك DrsalehAlosaimi@
الرياض - ص.ب 120969 الرمز 11689
فاكس وهاتف: 012414080
البريد الإلكتروني: s555549291@gmail.com