يرزق الله الإنسان هذا الدين نعمة منه ومنة من غير سؤال، وكما ثبت عن ابن عمر أنه كان يقول عشية عرفة: « اللهم إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك إياه، فلا تنزعه منا ونحن نسألك إياه»().
ويظل الناس على هذا الدين، فمنهم من يزداد إيمانه ومنهم من ينقص، ومنهم من لم يدخل الإيمان في قلبه، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارًا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق.
وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا كانوا من أهل الوعيد، ولهذا لما قدم النبي × المدينة أسلم عامة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق، فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة ولم يكونوا من المؤمنين حقًّا الذين ابتلوا فظهر صدقهم».
ثم قال – رحمه الله – «وفي الجملة: ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا ؛ فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان، وهو الضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقًّا الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقًّا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان وينقص إيمانهم كثيرًا، وينافق أكثرهم أو كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا ؛ وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة.
وإذا كانت العافية أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطنًا وظاهرًا لكن إيمانًا لا يثبت على المحنة.
ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم وهؤلاء من الذين قالوا: (آمنا) فقيل لهم: + "().
أي: الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة. ولهذا قال تعالى: + "() فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب ؛ بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم، ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علمًا وعملاً ؛ وإلا فإذا كان عالمًا بالحق، ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعًا عظيمًا، لم يكن صاحب يقين. قال تعالى: + "()().
وهكذا نجد بأن هناك من يتزعزع إذا جاءت الفتنة، بل وعنده استعداد ليبيع هذا الدين بأبخس الأثمان، وما علم بأن هذه الأحداث إنما هي من الابتلاءات التي يمحص الله بها عباده، ليميز من خلالها الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب.
ويبرز هذا التزعزع أكثر عندما تكون الجولة للكفار، أو عندما يتآلب أهل الكفر على أهل الإسلام، فلا يفرقون بين مسالم ومحارب؛ فيضعف إيمان البعض حتى يؤدي ببعضهم إلى أن يتخلى عن دينه، ويبادر بتغيير اسمه حتى ينجو ويسلم من الأذى، مع أنه في المحن يثبت بعض الضعفاء حتى يتقوا ويضعف بعض الأقوياء حتى ينتكسوا، وما علموا بأن في هذه المصائب لله حكمة، وكما قال ابن القيم رحمه الله: «إن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه وغلبته له وأذاه له في بعض الأحيان أمر لازم لابد منه، وهو كالحر الشديد والبرد الشديد،والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة الإنسانية، لأن الخير لو تجرد في هذا العالم عن الشر لكان هذا عالمًا آخر تفوت بموجبه الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، وما علموا بأن هذا الابتلاء بغلبة العدو وقهره للمؤمن وكسره له أحيانًا من أجل حكمة عظيمة لا يعلمها إلا الله ولعل منها:
• استخراج عبوديتهم لله وافتقارهم إليه وانكسار له؛ بسؤاله نصرهم على عدوهم، فلو كانوا دائمًا منتصرين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائمًا مقهورين لما قامت للدين قائمة، فجعلهم الله يومًا غالبين يقيمون من خلاله الدين وشعائره، وإذا كانوا مغلوبين تضرعوا إليه وطلبوا منه النصر.
• لو كانوا دائمًا منصورين لدخل معهم من ليس قصده الدين، فيجعل الله ذلك حتى يتميز من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
• أن امتحان المؤمنين بانهزامهم من عدوهم فيه تمحيص وتهذيب واختبـار لمـدى صـدق إيمانهم، لأن من قال: آمنت فلابد أن يمتحنه الله – عـز وجل – ويبتليه ليتبين هل هو صادق فيثبت على قوله، أو كاذب فيرجع على عقبيه فيفر من عذاب الناس ليقع في عذاب الله، حتى يمتحن في الآخرة بالعذاب ويفتن به.
فلابد من حصول الألم والمحنة لكل نفس، أحسنت أو كفرت.
كما بين – رحمه الله – بأن الإنسان عليه أن يعلم أنه يعيش بين أناس مختلفة أديانهم متباينة مشاربهم، حيث قال: «بأن الإنسان مدني بالطبع لابد أن يعيش مع الناس، وهناك من لهم إرادات واعتقادات مخالفة للمؤمن، فيطلبون منه الموافقة عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، وفي النهاية بأنه لا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أهون وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم، وله العاقبة إن صبر واتقى، وإن وافقهم فسوف يناله من الألم أضعاف ما ناله من اللذة في موافقتهم().
إن الله – عز وجل – يتعاهد أهل الإيمان بهذه الابتلاءات والمحن حتى لا يركنوا إلى الحياة الدنيا ويطمئنوا بها ويفتنوا بها، وينشغلوا بها عن الآخرة، بل لابد من منغصات ومكدرات تعيدهم إلى جادة الصواب فيتضرعوا إلى الله، فالكدر والضيق في الدنيا حاصل لأهل الإيمان ولأهل الكفر.
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيـــام ضد طباعها طباعها متطلب بالماء جــذوه نــار
أما في الآخرة فالسعادة لأهل الإيمان، والشقاء للكفار.
قاله وكتبه:أبوعبد الإله الدكتور/صَالحُ بْنُ مُقبِلٍ العُصَيْمِيَّ التَّمِيمِيِّ
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
والمشرف العام على موقع الشيخ صالح بن مقبل العصيمي التميمي
تويتر، وفيس بوك DrsalehAlosaimi@
الرياض - ص.ب: 120969 - الرمز: 11689
فاكس وهاتف: 012414080
البريد الإلكتروني: s555549291@gmail.com