الخطبة الأولى:
عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ عَظِيمٌ يَهْتَمُّ بِجَمِيعِ مَنَاحِي الْحَيَاةِ، يَعْتَنِي بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْمِيلَادِ إِلَى الْمَمَاتِ؛ فَاهْتَمَّ الْإِسْلَامُ بِحُقُوقِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَالشُّرَفَاءِ وَالْوُضْعَانِ وَالذُّكُورِ والإِنَاثِ، وَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَنَهَى عَنِ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ، وَعَلِمَ اللَّهُ بِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ سَيْسَتِغِلُّونَ الضُّعَفَاءَ مِنَ النِّسَاءِ والْوِلْدَانِ فِي فُوَّهَاتِ الْمَدَافِعِ، وَمَعَ الْجيُوشِ فَنَهَى عَنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ إِيذَائِهِمْ فَإِذَا اسْتَغَلَّهُمُ الْعَدُوُّ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَرْحَمُهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ كُلَّ إِيذَاءٍ يُصِيبُ الضُّعَفَاءَ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهِمْ، فَأَوْقَفَ وَحَرَّمَ عَادَةَ قَتْلِ الْوَلِيدَاتِ الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً في الْجَاهِلِيَّةِ، وَحَرَّمَ وَأْدَ الْبَنَاتِ، وَاعْتَبَرَهُ جُرْمًا عَظِيمًا، قَالَ تَعَالَى: "وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ" وَحَرَّمَ بَيْعَ الْأَحْرَارِ مِنْ أَجْلِ اسْتِغْلَالِ ثَمَنِهِمْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ مِنْهُمْ: رَجُلًا بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ".
وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْمُتَاجَرَةَ باِلْمَرْأَةِ لِاسْتِغْلَالِهَا بِمُمَارَسَةِ الْبِغَاءِ، وَحَرَّمَ الْوَسِيلَةَ وَالْغَايَةَ، وَحَرَّمَ الثَّمَنَ؛ فَقَالَ تَعَالَى:" وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا "، وَحَرَّمَ الْمَالَ الَّذِي يَأْتِي نَتِيجَةَ الْبِغَاءِ؛ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْرُ الْبَغِيَّةِ حَرَامٌ"، فِي حِينِ نَرَى فِي بَعْضِ دُوَلِ الْعَالَمِ تُنْشَأُ الْأَمَاكِنُ، وَتُعْرَضُ النِّسَاءِ فِيهَا مُمْتَهَنَاتٍ مُهَانَاتٍ مَجْرُوحَاتٍ مَكْلُومَاتٍ، يَقَعُ عَلَيْهِنَّ فِي الْيَوْمِ عَشَرَاتُ الرِّجَالِ، اسْتَغْلُّوا ضَعْفَهُنَّ وَفَقْرَهُنَّ، ثُمَّ يُرَمَيْنَ بالشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ مُنْذُ أَنْ يَتَغَيَّرَ شَكْلُها، أَوْ تَكْبُرُ سِنُّهَا، فَتَكُونُ شَرِيدَةً طَرِيدَةً لَا أَهْلَ وَلَا مَأْوَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِالْعَطْفِ عَلَى الصِّغَارِ وَرَحْمَتِهِمْ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ النّفَقَةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا رُشْدَهُمْ؛ فَلَمْ يَجْعَلْهُمْ مَصْدَرًا لِلدَّخْلِ، وَلَا مَجَالًا لِاسْتِعْطَافِ النَّاسِ، وَلَا جَعَلَهَم بِضَاعَةً للتَّسَوُّلِ وَوَسِيلَةً لَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"؛ فَالْأَبُ وَالْأُمُّ مَسْؤُولَانِ عَنْ رِعَايَةِ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ، بَلْ نَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ مَنِ اسْتَغَلَّ الْأَطْفَالَ وَالْغِلْمَانَ لِلْمُتَاجَرَةِ فِيهِمْ؛ بِمُمَارَسَةِ الْحَرَامِ وَاسْتِغْلَالِهِمْ فِي الْعَمَلِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ لَهْوِ الطُّفُولَةِ، وَحُقُوقِ الدِّرَاسَةِ، فَجَعَلُوهُمْ مَصْدَرًا لِلْكَسْبِ وَوَسِيلَةً لَهُ، وَحَفِظَ الْإِسْلَامُ حَقَّ الْأَجِيرِ فَحَذَّرَ مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهِ، مُجَرَّدَ التَّأْخِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"، كِنَايَةً عَنِ السُّرْعَةِ بِالدَّفْعِ وَعَدَمِ الْمُمَاطَلَةِ بِالْعَطَاءِ، بَلْ وَجَعَلَ مَنْ لَا يُعْطِي الْأَجِيرَ حَقَّهُ كَامِلًا خَصْمًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ؛ فَمَنْ سَيَنْتَصِرُ وَحَجِيجُهُ وَخَصْمُهُ أَمَامَ اللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،ومِنْ صُورِ اِنْتِهَاكِ حُقوقِ الْإِنْسَانِ وَكَرَامَتِهِ، وَخُصُوصاً الْعُمَّالُ : تَأْخِيرُ دَفْعِ مُسْتَحِقَّاتِهِمِ الْمَالِيَّةِ وَالْمُمَاطَلَةِ فِيهَا، أَوْ تَوْقِيعُهُ مُكْرَهًا عَلَى اِسْتِلَامِهَا وَهُوَ لَمْ يَتَسَلَّمَهَا، وتهدُيدُهُ عِنْدَ التَّذْكِيرِ بِحَقِّهِ بِإلْغَاءِ وَتَسْفِيرِهِ ، وَلَاشَكَّ أَنَّ هَذَا مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي نَهَانَا عَنْهُ دِينُنَا الْحَنِيفُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاِحْذَرُوا الظُّلْمَ فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ كَبِيرٌ ، وَإِثْمٌ عَظِيمٌ ، بِسَبَبِهِ تَكُونُ كُلُّ الْمَصَائِبِ، وَتَحُلُّ النِّقَمُ وَالْجَرَائِمُ وَالْمَعَائِبُ
وَلَقَدْ أَرَادَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ فَضْلَ إِعْطَاءِ الْأَجِيرِ حَقَّهُ بِقِصَّةٍ يَحْفَظُهَا الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ؛ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْغَارِ الثَّلَاثَةِ حِينَمَا انْفَلَقَ عَلَيْهِمُ الْغَارُ فَقَالَ الثَّالِثُ يَتَوَسَّلُ إِلَى اللَّهِ لِيَنْفَرِجَ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرْبٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرا فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ أَجْرِ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَأَثْمَرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى َكُثَرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ وَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أدِّ إِلَيَّ أَجْرِي فَقَالَ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ هَذَا ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَاخرج عن ما نحن فيه فَانْفَجَرَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَيَا لِعِظَمِ أَجْرِ مَنْ حَفِظَ لِلْأَجِيرِ حَقَّهُ، وكَذَلِكَ حَفِظَ حَقَّ الْخَدَمِ؛ فَلَا يُكَلَّفُونَ مَا لَا يَطِيقُونَ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي اللَّيْلِ وَقَدْ عَمِلَ عملًا بِنَفْسِهِ: لَوْ أَمَرْتَ بَعْضَ الْخَدَمِ فَكَفُّوا، فَقَالَ لَهُمْ: لَا، اللَّيْلُ لَهُم لَيَسْتَرِيحُوا فِيهِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَهُنَاكَ مَنْ لَا يَرْحَمُ الْعُمَّالَ؛ فَيُكَلِّفُهُمْ بِأَعْمَالٍ شَاقَّةٍ تَحْتَ حَرَارَةِ الشَّمْسِ الْمُحْرِقَةِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ، مَعَ بَخْسٍ بِالثَّمَنِ، وَتَأَخُّرٍ فِي الدَّفْعِ، استغلالًا لِحَاجَاتِهِمْ، وَتَكَسَّبَ مِنْ وَرَائِهِمْ، كَمَا أَنَّ مِنْ صُوَرِ اسْتِغْلَالِ حَاجَاتِ النَّاسِ مَا تَفْعَلُهُ بَعْضُ الشَّرِكَاتِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ الَّتِي تُوَظِّفُ النَّاسَ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، مِنْ أَجْلِ إِعْطَائِهِمْ شِهَادَاتِ الْخِبْرَةِ الَّتِي يَمُنُّونَ فِيهَا عَلَيْهِمْ. إنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَاشِيةً فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ تَزِيدُ أَوْ تَنْقُصُ.
حَمَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الظُّلْمِ، وَوَقَانَا وَأَعَاذَنَا مِنَ الظُّلْمِ فَلَا نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ.
وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ التعالِيَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَاحْتِقَارِهِمْ، فَحَذَّرَ مِنَ الْكِبَرِ بِرُمَّتِهِ وَجَزّهَ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَطَعَهُ مِنْ سَاسِهِ؛ فَقَالَ:صل الله عليه وسلم(الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»رواه مسلم :وغَمْطُ النَّاسِ" أَيِ احْتِقَارُهُمْ وَالتَّعَالِي عَلَيْهِمْ ؛فالتَّكبرُ من الصِّفاتِ المذمومةِ للبشرِر لأنَّ اللهَ من أسمائِهِ المتكبِّر الجبَّار جلَّ في علاهُ.قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟في الحديث القدسي: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعِزَّةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، أُلْقِهِ فِي النَّارِ »رواه احمد بسند صحيح
عِبَادَ اللَّهِ، لَقَدْ أَثْبتَتْ الدِّرَاسَاتُ الْحَدِيثَةُ أَنَّ حَصِيلَةَ الإِتْجَارِ بِالْبَشَرِ وَاسْتِغْلَالِهِمْ تَأْتِي كَمَصْدَرٍ ثَالِثٍ فِي الْكَسْبِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ بَعْدَ تِجَارَةِ السِّلَاحِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمُخَدِّرَاتِ، حَتَّى بَلَغَتْ قُرَابَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِلْيَارًا، أَيْ أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ مِلْيَارِ رِيَالٍ، وَلَا يَقِلُّ الْعَدَدُ عَنْ مِلْيُونٍ وَنِصْفٍ مِنَ الْأَطْفَال.
عِبَادَ اللَّهِ مِنَ الْإِتْجَارِ بِالْبَشَرِ اسْتِغْلَالُ الْعَمَالَةِ؛ بِأَنْ يَقُومَ باِستْقِدْامِهِمْ ثُمَّ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مُقَابِلَ أَعْمَالِهِمْ، فَلَا هُوَ نَظَّمَ لَهُمْ عَمَلًا نِظَامِيًّا، وَإِنَّمَا تَرَكَهُمْ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُعْطُونَهُ مِنَ الْمُكُوسِ مُقَابِلَ كَفَالَتِهِ لَهُمْ، وَهَذَا - وَرَبِّي - غَايَةُ فِي الظُّلْمِ وَأَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ، وَاسْتِغْلَالِ الْبَشَرِ، نَاهِيكَ بِالْحِيَلِ وَالْخِدَاعِ، وَمِنْ أَقْبَحِ الْمُتَاجَرَةِ بِالْبَشَرِ عَضَلُ بَعْضِ الْآبَاءِ أَوِ الْإِخْوَةِ بَنَاتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ عَنِ الزَّوَاجِ مِنْ أَجْلِ اسْتِغْلَالِهِنَّ مَادِّيًّا، وَأَكْلِ أَمْوَالِهِنَّ، كَمَا أَنَّ مِنْ صُوَرِ الْمُتَاجَرَةِ أَنْ يُزَوِّجَ بَعْضُ الآبَاءِ بَنَاتِهِ لِغَيْرِ الْأَكْفَاءِ أَوِ الْمُكَافِئِينَ، مِنْ أَجْلِ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ مَهْرٍ فَيُزَوِّجُهَا بِمَبَالِغَ طَائِلَةٍ، وَيَجْعَلُهُ مِنْ حَقِّهِ لَا مِنْ حَقِّهَا، كَذَلِكَ مِنَ الْمُتَاجَرَةِ بِالْبَشَرِ اسْتِغْلَالُ الْحُرُوبِ أَوِ الْفَقْرِ وَالْعِوَزِ وَالْحَاجَةِ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ بِلْدَانِهِمْ، وَحَمْلُهُمْ بِسُفُنٍ لَا يَكَادُونَ يَجِدُونَ فِيهَا مَوْطِئَ قَدَمٍ مِنْ أَجْلِ تَهْجِيرِهِمْ فَيَمُوتُ بَعْضُهُمْ جُوعًا، وَبَعْضُهُمْ غَرَقًا، وَبَعْضُهُمْ مَرَضًا فِي اسْتِغْلَالِ حَاجَاتِهِمْ، وَدَفْعِهِمْ لِمِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ الْمُجْرِمِ.
وَمِنْ صُوَرِ الْمُتَاجَرَةِ بِالْبَشَرِ الاِبْتِزَازُ، وَهَذَا مَلْحُوظٌ بِكَثْرَةٍ حَيْثُ يَتِمُّ اسْتِغْلَالُ بَعْضِ الْبَشَرِ، مِنْ خِلَالِ حِفْظِ وَثَائِقَ أَوْ صُوَرٍ أَوْ مُسْتَنَدَاتٍ قَدْ تَضُرُّ بِهِمْ أَوْ بِسُمْعَتِهِمْ، فَيُهَدَّدُ إِنْ لَمْ تَدْفَعْ أَمْوَالًا أَوْ تَنَازُلَاتٍ يَفْضَحُونَهُمْ أَوْ يُوَرِّطُونَهُمْ بَلْ هُنَاكَ نِسَاءٌ اسْتُغْلِلْنَ عَشَرَاتِ السَّنَوَاتِ؛ تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُنَّ، وَتُهْتَكُ أَعْرَاضُهُنَّ، وَيَنْهَشُ بِهِنَّ الْأَصْحَابُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ بِسَبَبِ مُكَالَمَةٍ أَوْ نَزْوَةٍ عَابِرَةٍ أَوْ عَثرَةٍ؛ فَلا يُبْقُونَ لَهنَّ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا ثَمَنَ سُكُوتِهِمْ عَنْهُنَّ بَلْ وَقَدْ يَكُونُونَ سَبَبَ وَقُوعِهِنَّ فِي بَرَاثِنِهِمْ مَكْرًا مِنْهُمْ أَوْ خَدِيعَةً، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
الخطبة الثانية
عِبَادَ اللَّهِ لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ فَقَالَ تَعَالَى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، وَمِنْ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِعَدَمِ الْمُتَاجَرَةِ بِالْبَشَرِ وَاسْتِغْلَالِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينَ حتى يضطرون لبِبَيْعِ أَعْضَائِهِمْ، فَحَرَّمَ أَصْلًا أَنْ يَبِيعَ الْإِنْسَانُ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَالْكَسْبِ، وَاسْتِغْلالَ الْفَقِيرِ، حَتَّى صَدَرَ عَنِ الْمُجَمَّعِ الْفِقْهِيِّ أَنَّهُ يُحَرِّمُ نَقْلَ عُضْوٍ مِنْ إِنْسَانٍ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ؛ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الْقَلْبِ مِنْ إِنْسَانٍ حَيٍّ إِلَى إِنْسَانٍ آخَرَ، بَلْ وَحَرَّمَ أَيْضًا نَقْلَ عُضْوٍ مِنْ إِنْسَانٍ لِعُطْلِ زَوَالِ وَظِيفَتِهِ الْأَسَاسِيَّةِ؛ كَنَقْلِ قَرَنِيَّةَ الْعَيْنَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَأَباَحَ فِي حَالَاتِ نَقْلِ العُضْوِ إِنْ كَانَ هَذَا الْعُضْوُ يَتَجَدَّدُ تِلْقَائِيًّا، كَالدَّمِ وَالْجِلْدِ، وَشَدَّدَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ بَيْعِ الْعُضْوِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ إِخْضَاعُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ لِلْبَيْعِ بِحَالٍ مَا، فَأَعْضَاءُ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلْإِنْسَانِ، وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ، حَتَّى يُعَارِضُوا عَلَيْهَا بَعْدَ وَفَاتِه، انْتَهَى الْقَرَارُ وَفِيهِ تَفَاصِيلُ أَكْثَرُ.
إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ عَظِيمٌ يُحَرِّمُ كُلَّ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْبَشَرِ