الْخُطْبَةُ الأُولَى:
عِبَادَ اللهِ..
إِنَّ الْعَبْدَ يَحْتَاجُ إِلَى الثِّقَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالرَّاحَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَلَا رَاحَةَ وَلَا سَكِينَةَ إلَّا بِذِكْرِ اللهِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".
وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمنا الله وإياه؛وَغَيْرُهُ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ ؛يَحُثُّونَ النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةِ آيَاتِ السَّكِينَةِ،لِمَا لَهَا مِنْ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ عَلَى اسْتِقْرارِ وَرَاحَةِ أهْلِ الْإيمَانِ ؛وَثْبَاتِهِمْ، فَبِهَا يَذْهَبُ الله كَيْدُ الشَّيْطَانِ، ويُذَلُّ أَعَدَاءُ أهْلِ الْإِيمَانِ، وَيَخْسَأُ بِهَا مَرَدَةُ الْجَانِّ، وَبِهَا تَزْدَادُ ثِقَةُ الْمُؤْمِنِ بِرَبِّهِ، وَيَقِيَنُهُ بِمَوْعُودِهِ.
وآيَاتُ السَّكِينَةِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفَهِمُوهَا مِنْ تَدَبُّرِهِ وَتَأَمُّلِهِ تَبْلُغُ 6 آيَاتٍ:
الْآيَةُ الْأُولَى؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِۦٓ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"حيث قال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ عَلَامَةَ مُلْكِ طَالُوتَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَرُدَّ اللهُ عَلَيْكُمُ التَّابُوتَ الَّذِي أُخِذَ مِنْكُمْ..
"فِيهِ سَكِينَةٌ" أَيْ: فِيهِ وَقَارٌ وَجَلَالَةٌ، وَقِيلَ: طِسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانَتْ تَغْسِلُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ قُلُوبَ الْأَنْبِيَاءِ ؛أَعْطَاهُ اللَّهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَوَضَعَ فِيهِ الْأَلْوَاحَ.. وَقَوْلُهُ: "وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ" الْأَلْوَاحُ وَعَصَا مُوسَى ؛ حيث جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُ التَّابُوتَ؛ووَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ طَالُوتَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ؛ فآمَنُوا بِنُبُوَّةِ شَمْعُونَ، وَأَطَاعُوا طَالُوتَ..
وَقَوْلُهُ: تعالى؛(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ" أَيْ عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَفِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي طَاعَةِ طَالُوتَ؛إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.. وَخُلَاصَةُ الْآيَةِ..أَنْ تَعْرِفُوا مِنَ الْآيَاتِ وَالْحِكَمِ مَا تَسْكُنُونَ إِلَيْهِ؛ وَتَطْمَئِنُّ نُفُوسُكُمْ بِهِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: "ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ" فبعدما ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ؛وَتَآلَبَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ :أَنْزَلَ اللهُ الْأَمْنُ وَالطُّمَأْنِينَةُ- "عَلَى رَسُولِهِ ﷺ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ"الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.. عِنْدَئِذٍ وَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ، وَانْقَلَبُوا عَلَى أعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ.
أَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"..
" إلَّا تَنْصُرُوهُ" فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ كَمَا نَصَرَهُ عِنْدَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا هَمَّ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلِهِ أَوْ حَبْسِهِ؛ فَخَرَجَ مِنْهُمْ هَارِبًا ؛بِصُحْبَةِ صَدِيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بِكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَجَأَ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ،حتى يخف الطَّلَبُ من الذين خَرَجُوا للبحث عنهم، ثُمَّ يَسِيرَا نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَخَافُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، فَيَخْلُصَ إِلَى الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَيُصِيبَهُ مِنْهُمْ أَذًى، فَجَعَلَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَكِّنُهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَقُولُ: يَا أَبَا بِكْرٍ؛ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟!
وَلِهَذَا قَالَ اللهُ: "فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ" أَيْ تَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَيْهِ؛ أَيْ: عَلَى الرَّسُولِ فِي أَشَهْرِ الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: عَلَى أَبِي بِكْرٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ تَزَلْ مَعَهُ السَّكِينَةُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي تَجَدُّدَ السَّكِينَةَ، خَاصَّةً بِتِلْكَ الْحَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ: "وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا" أَيْ: الْمَلَائِكَة.
وَقَوْلُهُ: "وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" أَيْ: فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ مَنِيعُ الْجَنَابِ، لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ ؛وَاحْتَمَى بِالتَّمَسُّكِ بِخِطَابِهِ، "حَكِيمٌ": فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
فَأَنْزَلَ اللهُ طُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ عَلَى رَسُولِهِ "وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍ مِنْ عِنْدِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ تَرَوْهَا ؛وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِكَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا: الشِّرْكَ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ".
والْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: "هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوٓاْ إِيمَٰنًا مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ"..
أَنْزَلَ الله السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ ؛
الْمُهْتَدِينَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَكَ اللهُ بِهِ يَا مُحَمَّدُ.. أَنْزَلَ الْوَقَارَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ ولرسوله صل الله عليه وسلم ، وَانْقَادُوا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ ؛ بوم الحديبية فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ قَلُوبُهُمْ بِذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتْ، زَادَهُمْ الله إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ،وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: "لَقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا".
يَعْنِي بَيْعَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحُدَيْبِيةِ؛ عَلَى مُناجَزَةِ قُرَيْشٍ، وَعَلَى أَلَّا يَفِرُّوا وَلَا يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُمْ تَحْتَ شَجَرَةٍ،وَهَذِهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ". لقد علم الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ؛فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم الطُّمَأْنِينَةُ، وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَا أَجْرَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ، وَمَا حَصَلَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَامِّ وكان اول ذلك الخير النصر بِفَتْحِ خَيْبَرَ، ثم فتح مَكَّةَ، ثُمَّ فَتْحِ سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ عَلَيهِمْ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: "وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأخُذُونَهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا"..
الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ"لَقَدْ مَنَّ الله عَليهم بعد مَا ضَاقَتْ عليهم الْأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ؛ فرحمهم بِإِنْزَالِهِ السَّكِينَةَ عليهم وَالْأَمْنُ وَالطُّمَأْنِينَةُ؛ بما يذهب خَوْفَهُمْ عند قِتَالِ الْمُشْرِكِين.. عِبَادَ اللهِ..
إِنَّ آيَاتِ السَّكِينَةَ ، رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ ؛ فَاحْرصُّوا عليها، نَفَعَ اللهُ بها الجميع .