الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
عِبَادَ اللهِ؛ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُصِيبُهُ هَمٌّ وَغَمٌّ، وَحُزْنٌ وَقَلَقٌ، وَيَقَعُ فِيْ وَرْطَةٍ؛ وَتَنْزُلُ بِهِ نَازِلَة ؛وَتَحِلُّ بِدَارِهِ مُصِيبَةٌ، وَتُصِيبُهُ فَاجِعَةٌ ؛ مَرَضٌ أَوْ عُقُوقٌ، أَوْ ضِعْفٌ فِي عِبَادَةِ أَهْلَهُ لله، وَتِلْكَ وَرْبِي اُعْظُمِ الْمَصَائِبَ ؛ وَلَيْسَ لَهُ مخرج ولا مَنْجَى إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمَ بِاللهِ، وَأَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ، فَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُدْفَعُ بِهِ الْهَمُّ، وَيُزَالُ بِهِ الْغَمُّ، وَيُمْسَحُ بِهِ الْحُزْنُ، وَيَتَّسِعُ بِهِ الصَّدْرُ، وَيَرْتَاحُ بِهِ البَالُ: "الصَّلَاةُ".
فَعَلَى الْمَكْرُوبِ وَالْمَهْمُومِ وَالْحَزِيْن، أَنْ يَفْزَعُ إِلَى الله، وَأَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ، يَبْتَهِلُ بِهَا إِلَى اللهِ، وَيَلْجَأُ بها إِلَيْهِ، وَكَانَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ "إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى"، وَكَانَ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ شِدَّةٌ أَوْ ضِيقٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَتَلَا: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَاۖ". قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَسَارَّة عَلَيْهَا السَّلَامُ ؛زَوْجَةُ أَبِيْنَا إِبْرَاهِيمُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِصَّتِهَا مَعَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ،( حِينَمَا أَرَادَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى سَارَّةَ، فَقَامَتْ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ بَرِجْلِهِ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ؛ فَانْظُرُوا كَيْفَ أَنْجَاهَا اللهُ بِالصَّلَاةِ، حِينَمَا لَجَأَتْ إِلَى الله مِنَ الْجَبَّار؛ حَتَّى لَكَأَنَّهَا غَيْرُ مَوْجُوْدَة، وَلَا مِنْهُ مَطْلُوْبَة.
فالصلاة جالِبَةٌ لِلرِّزْقِ، بِرَحْمَةِ الله ؛وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَاۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًاۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ" إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا تَجْلِبُ الرِّزْقَ، فالْعَبْدَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يُنَاجِيهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللّهِ، وَرَهْبَةً مِنْهُ، فَيَتَبَاعَدُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللهَ، فَيَرْزُقُهُ اللهُ وَيَهْدِيهِ.
فَقَوْلُهُ تعالى (لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًاۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ" يَعْنِي: إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ. وَكَانَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاه، إِذَا أَصَابَ أهْلَهُ خَصَاصَةٌ يَقُولُ: ( قُومُوا فَصَلُّوا، ثُمَّ يَقُولُ: بِهَذَا أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صل الله عليه وسلم ؛وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ).
فَفَلَاحُ الْعَبْدِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، فَفِي الصَّلَاةِ الرَّاحَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ؛ وَلِذَا كَانَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِلَالًا بِإِقَامَتِهَا، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فِي الْحَدِّيْثِ الصَّحِيحِ: "يَا بِلَال، أَقِمْ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ؛فَفِيهَا الرَّاحَةُ لِقَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ.
"رَبَّنَا اجْعَلْنَا مُقِيمي الصَّلَاةِ وَذُرِّيَّاتِنَا، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دَعَاءَنَا ".
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاِسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
أمَّا بَعْدُ … عِبَادَ اللهِ، فَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عِبَادَ الله: فِي الصَّلَاةِ تَقَرُّ الْأَعْيُنُ وَتَرْتَاحُ الْأَنْفُسُ؛ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". وَمَا جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ إلَّا لِمَا فِيهَا مِنْ مُنَاجَاةٍ، وَانْشِراحِ الصُّدُورِ، وَطِيبِ النَّفْسِ.
إِنَّ فِي الصَّلَاةِ قُرَّةَ عُيُونِ الْمُحِبِّينَ؛ حَيْثُ لَا يَجِدُونَ الْأُنْسَ وَالطُّمَأْنِينَةَ وَالسَّكِينَةَ إلَّا فِيهَا، ولما وَفِيهَا الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ، وَالتَّذَلُّلُ للهِ، وَالِانْكِسَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَنْ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَوَدُّ أَلَّا يُفَارِقَهُ، وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَعِيمَهُ، وَبِهِ تَطِيبُ حَيَاتُهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (لَيْسَ فِي الدُّنْيَا نَعِيمٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إلَّا الصَّلَاةُ.)
عِبَادَ اللهِ؛ كَيْفَ لَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ الْفَرَجُ وَقَدْ جَاءَ في الحديث الصَّحِيحِ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ".
فَعَلَيْنَا أَنْ نُرَبِّيَ أَنْفُسَنَا وَأَهْلِيْنَا وَالْأَوْلَادَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَالْفَزَعِ إِلَى الصَّلَاةِ.
عِنْدَ كُلِّ كَرْبٍ ؛وَأَنْ نُحَافِظَ عَلَى الْفَرَائِض ؛ وَنَأْتِّيْ مِنَ النَّوَافِلِ مَا نَسْتَطِيعُ لِذَلِكَ سَبِيلًا.