الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ عِظَمِ هَذَا الدِّينِ أَنَّهُ شَرَعَ الزَّوَاجَ مِنْ أَجْلِ بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ عَلَى أُسُسٍ سَلِيمَةٍ، وَأَمَرَ بِالمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَينِ، مَعَ تَحَمُّلِ كُلِّ طَرَفٍ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ مِنْ مُنَغِّصَاتِ الْحَيَاةِ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ، قَالَ تَعَالَى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)فَحَثَّ الإِسْلَامُ عَلَى المُعَاشَرَةِ الحَسَنَةِ، وَأَنْ يَتَحَمَّلَ الرَّجُلُ اِعْوِجَاجَ الْمَرْأَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: "الْمَرْأَةُ خُلِقَتٍ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ، وَإِنَّكَ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهَا تَعِشْ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ" (رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ).
وَأَلْزَمَ الإِسْلَامُ الْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ الزَّوْجِ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَرْأَةَ أَنْ تَطْلُبَ مِنْ زَوْجِهَا الطَّلَاقَ دُونَ أَسْبَابٍ أَوْ مُبَرِّرَاتٍ شَرْعِيَّةٍ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ الصُّبْرُ عَلَى الزَّوْجِ، وَعَدَمُ التَّسَرُّعِ بِطَلَبِ الطَّلَاقِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).قَالَ الشَّوْكَانِي -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاه "وفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُؤَالَ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ مِنْ زَوْجِهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا تَحْرِيمًا شَدِيدًا؛ وَكَفَى بِذَنْبٍ يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ إلَى ذَلِكَ الْمَبْلَغِ مُنَادِيًا عَلَى فَظَاعَتِهِ وَشِدَّتِهِ". وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ" (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَضَعَ الإِسْلَامُ حُلُولًا لِلمَشَاكِلِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ الاِنْفِصَالِ؛ وَمِنْ أَهَمِّهَا:
1- الهَجْرُ فِي المَضْجَعِ.
2- وَحَثَّ عَلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].
3- وَجَعَلَتْ الشَّرِيعَةُ الإِسْلَامِيَّةُ الطَّلَاقَ آخَرَ الحُلُولِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَجَعَلَتْهُ مُتَدَرِّجًا مِنْ ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ؛ قَالَ تَعَالَى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) فَالطَّلَاقُ غَيْرُ مُحَبَّبٍ فِي الإِسْلَامِ فِي أَصْلِهِ؛ وَلِذَا وَضَعَ الإِسْلَامُ الحُلُولُ الأُولَى قَبْلَ تَقَطُّعِ الْعَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ.
4- وَشَرَعَ الإِسْلَامُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الأَوَّلِ وَالطَّلَاقِ الثَّانِي؛ لَعَلَّ الحَالَ يَسْتَقِيمُ بَعْدَ الطَّلَاقِ.
5- بَلْ وَجَاءَ فِي الإِسْلَامِ النَّهْيُ عَنْ طَلَاقِ المَرْأَةِ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ فِي طُهْرِ جَامَعَهَا فِيهِ؛ لِيُضَيِّقَ مِنْ زَمَنِ الطَّلَاقِ، وَأَلَّا يَجْعَلَ لِلشَّهْوَةِ دُورًا فِي الطَّلَاقِ. كُلُّ ذَلِكَ حِرْصٌ مِنْ الإِسْلَامِ عَلَى تَقْلِيلِهِ وَالْحَدِّ مِنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ طَلَاقَاً مُوَافِقَاً السنَّة إِلَّا فِي حَالَيْنِ:
فِي حَالِ أَنْ تَكُونَ المَرْأَةُ حَامِلًا؛ لِأَنّهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا تَكُونُ أَقْرَبُ لِقَلْبِ زَوْجِهَا، وَلَا يُطَلِّقُ رَجُلٌ اِمْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ إِلَّا وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الاِسْتِمْرَارِ مَعَهَا.
وَالزَّمَنُ الثَّانِي:أَنْ تَكُونَ فِي طُهْرِ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ؛ فَحِينَمَا تَزُولُ مَوَانِعُ الْمُعَاشَرَةِ، وَتَكُونُ الْمَرْأَةُ مُهَيَّأَةً لِلْوَطْءِ؛ فَلَا يَلْجَأُ لِطَلَاقِهَا إِلَّا مَنْ رَأَى صُعُوبَةَ اِسْتِمْرَارِ حَيَاتِهِ مَعَهَا. ولذا عندما طَلَّقَ ابْنِ عُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
6- وَضَيَّقَ الإِسْلَامُ مِنَ الطَّلَاقِ فَلَمْ يُوقِعْ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، وَلَا طَلَاقَ الغَضْبَانِ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ).
وَلَا يَفْرَحُ الشَّيْطَانُ بِشَيءٍ كَفَرَحِهِ بِالطَّلَاقِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَاُنْظُرْ - يَا رَعَاكَ اللهُ - كَيْفَ يَفْرَحُ إِبْلِيسُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى أَنَّ أَتْبَاعَهُ الَّذِينَ قَدْ يَنْجَحُونَ فِي إِشْعَالِ فِتَنٍ وَإِرَاقَةِ دِمَاءٍ لَا يَعْتَبِرُهُمْ قَدْ قَدَّمُوا عَمَلًا مُرْضِيًا لَهُ بِقَدْرِ مَا يُرْضِيهُ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ الَّذِي نجَحَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ فَصَارَ مُقَرَّبًا مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرَاقَ الرَّجُلِ لِأَهْلِهِ أَقْبَحُ شَيْءٍ. فَلَا يَفْرَحُ بِالطَّلَاقِ مَنْ فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ مِنَ اللهِ وَتَقْوَى، وَالشَّيْطَانُ يَفْرَحُ بِالطَّلَاقِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَفَاسِدَ.
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَعَلَ الإِسْلَامُ الطَّلَاقَ فِي يَدِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنْ المَرْأَةِ عَلَى ضَبْطِ الأُمُورِ، وَأَكْثَرُ تُؤَدَةٍ. مِنْ أَجْلِ الحَدِّ مِنَ كَثْرَةِ الطَّلَاقِ وَالتَّسَرُّعِ فِيهِ، وَلَكِنْ مَعَ الأَسَفِ الشَّدِيدِ نَجِدُ التَّسَرُّعَ فِي اِتّخَاذِ قَرَارِ الطَّلَاقِ خَاصَّةً مِنَ الشَّبَابِ حَدِيثِي الزَّوَاجِ مَلْحُوظًا؛ فَهُمْ لَمْ يَتَعَوَّدُوا عَلَى أَجْوَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ قُيُودٍ وَتَحَمُّلٍ لِلمَسْؤُولِيَّةِ، بَعْدَ تَرْكِهِمْ لِحَيَاةِ الْعُزُوبِيَّةِ الَّتي فِيهَا التَّفَلُّتُ مِنَ المَسْؤُولِيَّةِ؛ فَيُرِيدُونَ الجَمْعَ بَيْنَ مَزَايَا الزَّوَاجِ وَمَزَايَا العزوبِيَّةِ، وَهَذَا مِنْ الصُّعُوبَةِ بمَكَانٍ؛ لِذَا يُضَحِّي بَعْضُ الشَّبَابِ بِزَوَاجِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَجْوَاءِ العزوبِيَّةَ وَعَدَمِ تَحَمُّلِ المَسْؤُولِيَّةِ.
وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ فِئَةٍ مِنْ الفَتَيَاتِ اللَّوَاتِي اِعْتَدْنَ عَلَى الدَّعَةِ، وَعَدَمِ تَحَمُّلِ المَسْؤُولِيَّةِ فِي بُيُوتِ أَهْلِهِنَّ، وَفُوجِئْنَ بِمَسْؤُولِيَّاتٍ وَتَبَعَاتٍ لِلحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ ؛ فَصَعُبَ عَلَى بَعْضِهُنَّ تَرِكُ حَيَاةِ الدَّعَةِ وَعَدَمِ تَحَمُّلِ المَسْؤُولِيَّةِ فَسَارَعْنَ بِطَلَبِ الطَّلَاقِ. وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ الشَّبَابِ وَالفَتَيَاتِ يَنْدَمُونَ بَعْدَ فَتْرَةٍ؛ حِينَمَا يَرَوْنَ أَصْحَابَهُمْ قَدِ اِسْتَقَرَّتْ حَيَاتُهُمْ، وَكُوَّنُوا أُسَرًا، وَتَحَمَّلُوا الْمَسْؤُولِيَّاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتي لَابُدَّ مِنْهَا لِتَوَارُثِ الأَدْوَارِ فِي الحَيَاةِ.
وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْمُعَدِّدِينَ الَّذِينَ يَتَسَرَّعُونَ بِالطَّلَاقِ لِعَدَمِ تَأَقْلُمِهِمْ عَلَى حَيَاةِ التَّعَدُّدِ؛ فَيُرِيدُ مَزَايَا وَخَصَائِصَ الزَّوْجَةِ الوَاحِدَةِ مَعَ مَزَايَا وَخَصَائِصَ الْمُعَدِّدِ؛ وَهَذَا مِنْ الصُّعُوبَةِ بِمَكَانٍ؛ فَزَوْجُ الوَاحِدَةِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الاِعْتِذَارُ عَنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ فِي البَيْتِ عِنْدَ أَدْنَى سَبَبٍ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ السَّفَرُ فِي أَيِّ يَوْمٍ دُونَمَا مُسَاءَلَةٍ أَوِ اِتّهَامِ بِالجَوْرِ وَالظُّلْمِ.
أَمَّا الْمُعَدِّدُ فَيَجِدُ صُعُوبَةً فِي ذَلِكَ؛ لأَنَّ كُلَّ زَوْجَةٍ قَدْ تَتَّهِمُهُ بِتَعَمُّدِ السَّفَرِ ِفِي يَوْمِهَا لِيَحْرِمَهَا حَقَّهَا، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ قُبُولُ دَعَوَاتِ الوَلَائِمِ فِي يَوْمِهَا لِكَيْ لَا تَتَّهِمَهُ بِحْرْمَانِهَا مِنْ جُلُوسِهِ مَعَهَا. وَبَعْضُ الرِّجَالِ لَا يَتَحَمَّلُ مِثْلَ هَذِهِ المُنَاكَفَاتِ، وَلَا يُحْسِنُ التَّعَامُلَ مَعَهَا فَيُسَارِعُ بِالطَّلَاقِ؛ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنَ الأُمُورِ البَسِيطَةِ الَّتِي يَسْهُلُ حَلُّهَا، وَوَضَعُ الضَّوَابِطِ لِتَلَافِيهَا، وَلَكِنَّ الرَّغَبَةَ فِي جَمْعِ خَصِيصَةِ الْمُعَدِّدِ وَغَيْرِ الْمُعَدِّدِ جَعَلَ الطَّلَاقَ يَتَفَشَّى بَيْنَ الْمُعَدِّدِينَ.
عِبَادَ اللهِ: لَابُدَّ مِنَ الحَدِّ مِنْ ظَاهِرَةِ الطَّلَاقِ، وَأَنْ يَعِيَ الشَّبَابُ وَالكِبَارُ بِأَنَّ البُيُوتَ قَدْ تَكَدَّسَتْ بِالْمُطَلَّقَاتِ وَالعَوَانِسِ، وَالحِكْمَةُ مَعَ تَقْوَى اللهِ وَالصَّبْرِ وَمَعْرِفَةِ الْمآلاتِ الَّتي تَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَاقِ عَوَامِلُ مُسَاعِدَةٌ بِإِذْنِ اللهِ لِلحَدِّ مِنْهُ.
كَذَلِكَ لَابُدَّ لِلوَالِدَيْنِ أَنْ يَمْتَنِعَا عَنِ التَّدَخُّلِ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَينِ؛ فَغَالِبُ الطَّلَاقِ يحْدُثُ - مَعَ الأَسَفِ- بِسَبَبِ تَدَخُّلِ الأَبِ فِي حَيَاةِ اِبْنِهِ أَوْ الأُمِّ فِي حَيَاةِ اِبْنَتِهَا. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ اِبْنُ تَيمِيَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "لَيْسَ للزَّوْجَةِ أَنْ تُطِيعَ أُمَّهَا فِيمَا تَأْمُرُهَا بِهِ مِنَ الِاخْتِلَاعِ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ مُضَاجَرَتِهِ حَتّى يُطَلِّقَهَا: مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالصَّدَاقِ لِيُطَلِّقَهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَاحِدًا مِنْ أَبَوَيْهَا فِي طَلَاقِهِ إذَا كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ فِيهَا" اِنْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.كَذَلِكَ تَدْخُلُ الأَخَوَاتِ سَوَاءٌ أَخَوَاتُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ سَبَبٌ لِإِثَارَةِ الْمَشَاكِلِ؛ فَبَعْضُ أَخَوَاتِ الزَّوْجِ تُثِيرُ الأُمَّ عَلَى زَوْجَةِ الأَخِ، وَغَالِبُ ذَلِكَ بِسَبَبِ الغَيْرَةِ أَوْ الحَسَدِ.
كَذَلِكَ تُثِيرُ بَعْضُ الأَخَوَاتِ أَخَوَاتِهِنَّ ضِدَّ أَزْوَاجِهِنَّ، وَغَالِبُ مَنْ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ نَوَايَاهُنَّ - وَاللّهُ أَعْلَمُ – خَبِيثَةٌ، وَالحَسُدُ دَافِعُهُم، وَالشَّيْطَانُ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَؤُزُّهُمْ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَا تُثِيرُهُ وَسَائِلُ الاِتِّصَالِ الحَدِيثَةِ مِنْ فِتنٍ وَشُكُوكٍ وَسُوءِ ظَنٍّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَمِنِ اِطِّلَاعٍ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَا يَخُصُّ الآخَرَ، وَخَاصَّةً المَرْأَةُ الَّتِي تَسْعَى لِلتَّفْتِيشِ فِي أَجْهِزَةِ زَوْجِهَا، وَقَدْ تَجِدُ مَا لَا يَسُرُّهَا وَقَدْ تَكُونُ وَجَدَتْ بِجِهَازِ الزَّوْجِ شَيْئًا وَبَعْضهَا عَنْ طَرِيقِ الخَطَأِ وَلَكِنَّهَا تُعَظِّمُ الأُمُورَ، وَتُخْرِجُ القَضِيَّةَ إِلَى خَارِجِ حُدُودِ بِيْتِ الزَّوْجِيَّةِ.؛كَذَلِكَ كَثْرَةُ تَذَمُّرِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ اِنْشِغَالِ كُلِّ طَرَفٍ بهَذِهِ الأَجْهِزَةِ عَنِ الطَّرَفِ الآخَرِ. لَقَدْ سَبَّبَتْ هَذِهِ الأَجْهِزَةُ الحَدِيثَةُ وَالَّتِي حَوَتْ خَيْرًا وَشَرًّا فِي زَرْعِ الشَّكِّ بَيْنَ بَعْضِ الأَزْوَاجِ، وَنَشَرِ الرَّيْبَةِ؛ فَغَالِبُ هَذِهِ الأَجْهِزَةِ شَرُّهَا فِي بَعْضِ البُيُوتِ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِهَا وَأَكْبَرُ.
كَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الطَّلَاقِ: سُوءُ الأَلْفَاظِ الَّتِي يَتَفَوَّهُ بِهَا أَحَدُ الأَطْرَافِ فيُطْلِقُونَ الأَلْفَاظَ المُهِينَةَ عَلَى زَوْجَاتِهُمْ وازواجهم وَيَجْرَحُونَ مَشَاعِرَهُنَّ، وَيَلْجَؤُونَ لِلضَّرْبِ، وَهُوَ خُلُق غَيْر نَبِيلٍ لَا يَسْتَعْمِلُهُ الأَتْقِيَّاءُ الأَخْيَارُ.
كَذَلِكَ إِهَانَةُ بَعْضُ الأَزْوَاجِ لِأَقَارِبِ الآخَرِ، وَخَاصَّةً الوَالِدِينَ فَيَصْعُبُ عَلَى الطَّرَفِ الآخَرِ أَنْ يَتَقَبَّلَ إِهَانَةَ وَالِدَيْهِ، فَيَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ حَلٌّ لِابُدَّ مِنْهُ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ آجَالَنَا.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ ...... فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عباد الله:للطَّلَاقِ مَفَاسِدَ كَثِيرَةٌ، يَفْرَحُ بِهَا الشَّيْطَانُ، مِنْهَا:
قَدْ يَضْعُفُ إِيمَانُ أَحَدِ الْمُطَلَّقَيْنِ فَيَلْجَأُ لِلسَّحَرَةِ مِنْ أَجْلِ إِعَادَةِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ بِزَعْمِهِ لِمَكَانهَا؛ فَيَلْجَؤُونَ لِسِحْرِ العَطْفِ، فلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.
وتَشَتُّتُ شَمْلِ الأُسْرَةِ، وَتَفَرَّقُ الأَوْلَادِ بَيْنَ الأَبِ وَالأُمِّ، بَلْ قَدْ يَلْجَؤُونَ لِلقَضَاءِ؛ لِحَلِّ هَذِهِ المَشَاكِلِ وَ يَبْدَأُ صِرَاعٌ حَوْلَ الحَضَانَةِ قَدْ لَا يَنْتَهِي ، وَمَشَاكِلُ ضَحِيَّتُهَا الأَوْلَادُ عِنْدَ الزِّيَارَةِ، تَصِلُ لِخُصُومَاتٍ بَيْنَ الزَّوْجِ وَأَهْلٍ مُطَلَّقَتِهِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَأَهَلِ مُطَلِّقِهَا بِسَبَبِ زِيَارَةِ الأَطْفَالِ.
ومَا يَسْمَعُهُ هَؤُلَاءِ الأَطْفَالُ مِنْ كَلَامٍ جَارِحٍ عَنْ أَبِيهِمْ فِي بَيْتِ أُمِّهِمْ، وَعَنْ أُمِّهِمْ فِي بَيْتِ أَبِيهِمْ، مِمَّا يَتَفَوَّهُ بِهِ الأَهْلُ؛ فَتَنْكَسِرُ قُلُوبُهُمْ، وَتَتَقَطَّعُ أَفْئِدَتُهُمْ، وَيَحْمِلُونَ هُمُومًا فَوْقَ أَعْمَارِهِمْ، ممَّا يَسْمَعُونَهُ مِنْ كَلِمَاتٍ يَقْذِفُ بِهَا قُسَاةُ البَشَرِ الَّذِينَ نُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهُمُ الرَّحْمَةُ، وَسُلِبَتْ مِنْهُمُ الشَّفَقَةُ.
ووُجُودُ الصِّرَاعَاتِ بَيْنَ الأُسْرَتَيْنِ خَاصَّةً إِذَا كَانُوا ذَوِي قُرْبَى فَتَنْقَطِعُ العَلَاقَاتُ بَيْنَهُمْ بَلْ قَدْ تَتَطَلَّقُ بَعْضُ النِّسَاءِ بِسَبَبِ هَذَا الطَّلَاقِ.
وَمِنْ مَفَاسِدِ الطَّلَاقِ اِنْحِرَافُ الأَطْفَالِ الَّذِينَ يَهْرُبُونَ مِنْ المَشَاكِلِ الَّتِي نَتَجَتْ عَنِ الطَّلَاقِ إِلَى المُخَدِّرَاتِ وَالاِنْحِرَافَاتِ الأَخْلَاقِيَّةِ.
وَمِنْ المَفَاسِدِ أَيْضًا أَنَّ الأَبَ قَدْ يَضَعُ أَبْنَاءَهُ عِنْدَ زَوْجَةٍ أُخْرَى لَهُ، قَدْ نَزَعَتْ مِنْهَا الرَّحْمَةُ فَتَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ، وَتَكِيدُ لَهُمْ لَيْلَ نهَارَ.
وَمِنْ أَخْطَرِ المَفَاسِدِ أَنْ يُنَمَّيَ فِي قَلْبِ الطِّفْلِ شُعُورٌ بِالحِقْدِ وَالكَرَاهِيَةِ عَلَى أَحَدَ وَالِدَيَهِ مِنْ قِبَلِ الطَّرَفِ الآخَرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ لَا يَعْرِفُ ضَوَابِطَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ؛ فَيَنْبَغِي لِلأَبِ وَلَوْ طَلَّقَ اِمْرَأَتَهُ أَنْ يُعَظِّمَ مِنْ شَأْنِهَا أَمَامَ اِبْنِهِ كَمَا عَظَّمَةُ الشَّرْعُ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ المُطَلَّقَةُ فَتُوَصِّي أَبْنَهَا بِتَعْظِيمِ شَأْنِ وَالِدِهِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا العُقَلَاء، وَهُمْ مَعَ وُجُودِهِمْ لَا يمَثِّلُونَ الأَكْثَرِيَّةَ.
وُجُودُ الصَّدَمَاتِ النَّفْسِيَّةِ عِنْدَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الأَطْفَالِ وَيَصْعُبُ عِلَاجُهُ، وَالقِصَصُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا تَنْتَهِي. فَالأَطْفَالُ يَفْقِدُونَ الأَمْنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ.
وَمِنَ المَفَاسِدِ أَيْضًا أَنَّ الطِّفْلَ إِذَا بَقِيَ مَعَ أُمَّهِ قَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَعْتَنِي بِهِ فِي الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ، كَذَلِكَ قَدْ تَتَعَطَّلُ دِرَاسَتُهُ بِسَبَبِ عَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَذْهَبُ بِهِ. فَعَلَى الْمُجْتَمَعِ أَنْ يحِدَّ مِنَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ أَوْجَبَ مِنْ خِلَالِهِ الإِسْلَامُ أَوْ اِسْتَحَبَّ الطَّلَاقَ، أَمَّا مَا عَدا ذَلك فَلَابْدَّ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى؛ وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا؛ وَانْشُرِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا؛ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ؛ وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.