|

21 جمادى الأول 1446 هـ

مسابقة السيرة النبوية | استمع في دقيقة وربع إلى: " الشرك الأصغر" للدكتور/ صالح بن مقبل العصيمي التميمي | يمكنكم الأن إرسال أسئلتكم وسيجيب عليها فضيلة الشيخ الدكتور صالح العصيمي

 

الخطبة الأولى

     عِبَادَ اللهِ، لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ مِنْ الآثَارِ الحَسَنَةِ، وَالفَضَائِلِ المُتَنَوِّعَة، مِثْلَ التَّوْحِيدِ وَكَلِمَتِهِ العَظِيمَةِ: (لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَحْدَةُ لَا شَرِيكَ لَهُ). قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَفَضَائِلِهِ. 

وَمِنْ أَجْلِّ فَوَائِدِهِ أَنَّهُ يَـمْنَعُ الخُلُودَ فِي النَّارِ؛ مَتَى كَانَ فِي القَلْبِ مِنْهُ أَدْنِي مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ»، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَاةِ؛ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

فَالتَّوْحِيدُ إِذَا كَمُلَ فِي القَلْبِ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ بِالكُلِّيَّةِ. وَيَحْصُلُ لِصَاحِبِ التَّوْحِيدِ الهُدَى الكَامِلُ، وَالأَمْنُ التَّامُّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ اللّهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

وَهُوَ السَّبَبُ الرَّئِيسُ لِنَيْلِ رِضَا اللهِ وَثَوَابِهِ، وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهُ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، َ هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ قَالُوا: (لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ خَالِصَةً مِنْ قُلُوبِهِمْ). قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم،َ: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

 وَمِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ: أَنَّ جَمِيعَ الأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ مُتَوَقِّفَةٌ فِي قُبُولِهَا وَفِي كَمَالِهَا وَفِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا عَلَى الإِتْيَانِ بِهِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ وَالإِخْلَاصُ لِلهِ؛ كَمُلَتْ هَذِهِ الأُمُورُ وَتَمَّتْ.

     وَمِنْ فَضَائِلِهِ: أَنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَى الْعَبْدِ فِعْلَ الْـخَيْـرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَلِّيهِ عِنْدَ الْمُصِيبَاتِ، فَالْـمُخْلِصُ لِلهِ فِي إِيمَانِهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ تَخِفْ عَلَيْهِ الطَّاعَاتُ لِمَا يَرْجُو مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ وَرُضْوَانِهِ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ مِنْ المَعَاصِي، لِمَا يَخْشَى مِنْ سَخَطِهِ وَعِقَابِهِ .

وَالتَّوْحِيدُ إِذَا كَمُلَ فِي القَلْبِ؛ حَبَّبَ اللهُ لِصَاحِبِهِ الإِيمَانَ وَزِيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكْرَّهَ إِلَيْهِ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِنَ الرَّاشِدِينَ. قَالَ اللّهُ تَعَالَى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

     وَالتَّوْحِيدُ يُخَفِّفُ اللهُ بِهِ عَنِ العَبْدِ الْمَكَارِهَ وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الآلَامَ. فَبِحَسَبِ تَكْمِيلِ العَبْدِ لِلتَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ؛ يَكُونُ تَلَقِّيهِ الْمَكَارِهَ وَالآلَامَ بِقَلْبٍ مُنْشَرِحٍ، وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَتَسْلِيمٍ وَرِضًا بِأَقْدَارِ اللهِ المُؤْلِمَةِ. فَهَا هُوَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ؛ يَتَقَبَّلُ أَقْدَارَ اللهِ المُؤْلِمَةَ بنَفْسٍ رَاضِيَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَالْمَكْرُوبُ يَقُولُ فِي كَرْبِهِ كَمَا قَالَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

       وَبِكَلِمَةِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَبِالتَّسْبِيحِ؛ أَنْـجَى اللهُ ذَا النُّونِ حِينَمَا اِلْتَقَمَهُ الحُوتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، إِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ بِهَا» رَوَاهُ أَحْـمَدُ وَغَيْـرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَاللّهُ يَدْفَعُ عَنْ الْمُوَحِّدِينَ أَهْلِ الإِيمَانِ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَالطَّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ وَالطَّمَأْنِينَةِ بِذِكْرِهِ، وَشَواهِدُ ذَلِكَ مِنْ الكُتَّابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

    وَالتَّوْحِيدُ يُحَرِّرُ العَبْدَ مِنْ رَقِّ المَخْلُوقَيْنِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ وَخَوْفِهِمْ وَرَجَائِهِمْ وَالعَمَلِ لِأَجْلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ العِزُّ الحَقِيقِيُّ وَالشَّرَفُ العَالِي. فَهَا هُوَ بِلَالُ بِنُ رَبَاحٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، يُعَذِّبُهُ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ عَلَى إِسْلَامِهِ؛ فَلَمْ يُذِلَّ أَوْ يَخْضَعْ لَهُ، بَلْ كَانَ عَزِيزًا قَوِيًّا شَرِيفًا عَلَى أَسْيَادِهِ، وَهُمْ يُعَذِّبُونَهُ كَيْ يَكْفُرَ بِدِينِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ يُلْقِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ فِي وُجُوهِهِمْ فِي عِزَّةٍ وَإِبَاءٍ، (أَحَدٌ أَحَدٌ). فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُذِلُّوهُ، بَلْ صَمَدَ أَمَامَهُمْ حَتَّى أَكْرَمَهُ اللهُ بِالصَّدِيقِ الَّذِي اِشْتَرَاهُ وَأَعْتَقَهُ؛ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. فَالمُوَحِّدُ مُتَعَبِّدٌ لِلهِ، لَا يَرْجُو سِوَاهُ، وَلَا يَخْشَى إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ فَلَاحُهُ، وَيَتَحَقَّقُ نَجَاحُهُ.

وَالتَّوْحِيدُ إِذَا تَمَّ وَكَمُلَ فِي القَلْبِ، وَتَحَقَّقَ تَحَقُّقًا كَامِلًا بِالإِخْلَاصِ التَّامِّ؛ فَإِنَّهُ يُصَيِّـرُ القَلِيلَ مِنَ العَمَلِ كَثِيرًا، وَتُضَاعَفُ أَعْمَالُ وَأَقْوَالُ المُوَحِّدِ بِغَيْرِ حَصْرٍ وَلَا حِسَابٍ، وَكَلِمَةُ الإِخْلَاصِ فِي مِيزَانِ العَبْدِ؛ لَا تُقَابِلُهَا بِالوَزْنِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللهِ كَمَا فِي حَدِيثِ البِطَاقَةِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ "، قَالَ: «فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ» رَوَاهُ التِّـرْمِذِيُّ وَغَيْـرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

لَقَدْ بَلَغَتْ هَذِهِ البِطَاقَةُ ذَلِكَ الوَزْنَ؛ لِكَمَالِ إِخْلَاصِ قَائِلِهَا، وَكَمْ مِـمَّنْ يَقُولُـهَا لَا تَبْلُغُ مَعَهُ هَذَا المَبْلَغَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالإِخْلَاصِ الكَامِلِ مِثْلُ وَلَا قَرِيبٌ مِمَّا قَامَ بِقَلْبِ هَذَا العَبْدِ صَاحِبِ البِطَاقَةِ.

وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ حَدِيثِ صَاحِبِ البِطَاقَةِ أَنَّهُ أَتَى اللهَ بِتَوْحِيدٍ، وَإِخْلَاصٍ لَهُ؛ وَإِنْ تَعَاظَمَتْ ذُنُوبُهُ لِعَوَارِضِ الضَّعْفِ البَشَرِيِّ بَعِيدًا عَنْ الكُفْرِ وَالشَّرَكِ وَالنِّفَاقِ الأَكْبَرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ عَبْدَ اللهِ بِنَ أُبي بنُ سَلُولٍ كَانَ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا: (لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)، وَلَكِنْ شِتَّانِّ بَيْنَ القَلْبَيْنِ: قَلْبٍ مُلِئَ بِالتَّوْحِيدِ وَالإِخْلَاصِ، وَقَلْبٍ مَنْكُوسٍ أَسْوَدَ مُلِئَ بِالشَّرَكِ وَالكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. لَقَدْ ظَنَّ البَعْضُ، وَفَهِمَ مِنْ حَدِيثِ البِطَاقَةِ أَنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ فَقَطْ يَكْفِي لِلنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ، وَالفَوْزِ بِالجَنَانِ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَلْقَ اللهَ إِلَّا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. وَهَذَا ثَمَرَةُ فَهْمِ النُّصُوصِ مُقَطَّعَةً مُـجَزَّأَةً كُلُّ نُصٍّ عَلَى حِدَةٍ. وَضَرَبُوا كَلَامَ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْضَهُ بَعْضًا، وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الإِيمَانِ مِنْ أَنَّهَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَمَاذَا يُقَالُ فِي المُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ وَهُمْ يَقُولُونَ ظَاهِرِيًّا: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؟ وَمَاذَا يُقَالُ فَيمَنْ يَسُبُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُـحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُؤْمِنِيـنَ لَيْلَ نَـهَارَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؟ فَالْـجَمْعُ بَـيْـنَ الْأَدِلَّةِ مَنْهَجُ أَهِلِ السُّـنَّةِ وَالْـجَمَاعَةِ، وَضَرْبُ الأَدِلَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ؛ مَنْهَجُ أَهْلِ الأَهْوَاءِ الْـمُنْحَرِفَةِ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِـجَمِيعِ الْمُسْلِمِـيـنَ فَاِسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الْـخطبة الثانيةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ،وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى                                            

• عِبَادَ اللهِ، وَمِنْ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّ اللهَ تَكَفَّلَ لِأَهْلِهِ بِالفَتْحِ وَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالعِزِّ وَالشَّرَفِ وَحُصُولِ الهِدَايَةِ وَالتَّيْسِيـرِ لليُسْرَى وَإِصْلَاحِ الأَحْوَالِ وَالتَّسْدِيدِ فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ. وَفِي الآخِرَةِ بِالْفَوزِ بِالْجَنَّةِ.

• فَحُصُولُ السُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ لأَهْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ(؛ فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْحِيد عُلُوٌّ وَارتفَاعٌ، وَأَنَّ الشِّرْكَ هُبُوطٌ وَسُفُولٌ وَسُقٌوطٌ.

• قَالَ العَلَّامَةُ اِبْنُ القَيِّـمِ رَحِـمَهُ اللهُ: "شَبَّهَ الإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فِي عُلُوِّهِ وَسَّعَتِهِ وَشَرَفِهِ بِالسَّمَاءِ، وَشَبَّهَ تَارِكَ الإِيـمَانِ وَالتَّوْحِيدِ بالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ؛ مِنْ حَيْثُ التَّضْيِيقِ الشَّدِيدِ، وَالآلَامِ الْمُتَـرَاكِمَةِ، وَالطَّيْـرُ الَّتِي تَـخْطَفُ أَعْضَاءَهُ وَتُـمَزِّقُهُ كُلَّ مُـمَزَّقٍ بِالشَّيَاطِينِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللّه تَعَالَى وَتَؤُزُّهُ وَتُزْعِجُهُ وَتُقْلِقُهُ إِلَى مَظَانِّ هَلَاكِهِ، وَالرِّيحُ الَّتِي تَـهْوِي بِهِ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ؛ هُوَ هَوَاهُ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي أَسْفَلِ مَكَانٍ وَأَبْعَدِهِ عَنِ السَّمَاءِ "فَاللهَ اللهَ فِي التَّوْحِيدِ، عَلَيْهِ تَـحْيَوْنَ، وَعَلَيْهِ تَـمُوتُونَ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُونَ. (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

• الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ ،حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ  .وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...